الاثنين، 12 يوليو 2010

بدل فاقد

هى

كان اليوم الثالث لهذه المهزلة الورقية .. وكأنما تريد الحكومة معاقبتى على تضييع بطاقة الرقم القومى بوضعى تحت رحمة أكثر خلق الله عنتا و حبا فى "توقيف المراكب السايرة " .. كان الأمر كاالتالى ..
منذ خمسة أشهر أو لعلها ستة – لا أذكر لأننى فى العادة مش بركز فى التواريخ - فقدت بطاقة الرقم القومى ضمن مافقدت من محتويات حافطة نقودى .. لم يكن الأمر ليمثل الفارق الكبير لدى فلست من طراز البشر الذى يهتم كثيرا بحمل أوراق اثبات الهوية .. ربما لأننى لم أتعرض لموقف يتطلب هذا فعلا .. ولهذا تطلب الأمر خمسة أو ستة أشهر من الزن و الاحاح المتواصل ..كى استخرج بدل الفاقد ..
الحجرة الخانقة فى السجل المدنى مزدحمة كالعادة بالكثيرين ممن يشاركوننى مأساة استخراج الرقم القومى .. وكعادة المصريين فى كل شىء ينقسم المواطنين الى طابور " الحريم " و طابور " الرجالة " الشىء الذى لا يضايقنى و انما فقط يثير سخريتى .. عموما كان هذا فى صالحى لأن طابور الستات أقصر من طابور الرجالة .. هذا بالطبع قبل أن أكتشف أن كلا الطابورين يتعاملان مع ذات الشباك و مع موظفة واحدة فقط . وتلك الأخيرة لا تتردد فى البحث عما قد يوقف الاجراءات و " هات كذا و تعالى بكرة " .. ولهذا السبب استغرق الأمر ثلاثة أيام كما سبق و أشرنا ..
أخيرا تحقق الحلم و استجيب الدعاء و انقشعت الغمة ووصلت الى الموظفة المحترمة التى ألقت نظرة فاحصة متأنية على الأوراق و التى كتب عليها " بدل فاقد " و أرفق بها محضر فقد للبطاقة القديمة .. ثم رفعت رأسها و سألتنى و الدهاء يطل من نظراتها " أمال فين البطاقة ؟"
قاومت و باستماته رغبتى العارمة فى أن أرقع بالصوت أو أن ألطم خدى أو أشق هدومى أو أهشم أنفها بلا رحمة .. وسحبت نفسا عميقا قبل أن أجيب " البطاقة ضايعة يا فندم .. و المحضر قدامك .. أمال أنا جاية أطلع بدل فاقد ليه؟ "
نظرت الى – شوف البجاحة يا جدع – باحتقار .. ثم بحثت بين الأوراق على ما يمكنه تعطيلى حتى وجدته " عايزة اثبات شخصية .. هاتى حد من أهلك يضمنك "
لملمت أوراقى و خيبتى و عدت من حيث أتيت .. بعد كل هذا العناء و كل المستندات الرسمية التى بحوزتى مازالت تريد ضامنا .. ألا فلتذهب البيروقراطية بكل صورها الى الجحيم ..

*********

هو

كدت أجن من الانتظار فى الجو الخانق و الطابور الذى لا يتحرك تقريبا .. هل يعقل أن أمر بكل هذا القدر من التعذيب الغير آدمى حتى أجدد بطاقة الرقم القومى اللعينه ؟ أى جنون !!
فى مثل تلك الأوقات تصبح تسليتك الوحيدة تأمل اللذين يشاركونك العناء .. السخرية المرة فى الانقسام الأزلى الى طابور للسيدات و طابور للرجال فى محتمعنا المحافظ .. الشىء الذى ان دل فيدل على استحالة وجود علاقات محترمة بين الجنسين فى هذا البلد حتى و لو كانت تلك العلاقة لا تتجاوز التجاور فى طابور حكومى لبعض الوقت ..
كنت أجيل عينى بسخرية بين الواقفين و الواقفات حتى توقفتا مجبرتين – عندها ...
كيف يمكنك ألا تلاحظها؟ بصمتها الصارخ ذا الحضور الأقوى من صراخ الموجودين جميعا .. وايقاع حركة يدها ذات الأظافر المطلية بحمرة وردية نوعا وهى تحرك برقة حافظة الأوراق التى يتماشى لونها مع لون طلاء أظافرها بدقة تبدو مبالغا فيها فى مثل هذا الجحر.. تحركها ببساطه للحصول على بعض الهواء .. فيصلنى فى مكانى عطرا زهريا رقيقا ينبعث من خصلات شعرها المنسدل مع كل حركة .. حتى نظراتها التعبة المشبعة بالملل التى تتأرجح بين الأرض و السقف و ساعة يدها لها طابع ملائكى واضح .. كانت تسبقنى .. مما أتاح لى أن أتأملها دون أن تزعجها نظراتى .. تماما كما تفعل مع يمامة ما تعلم تماما انك ستفقدها فى اللحظة التى تقترب فيها منها .. لذا اكتفيت بمتابعتها وقد شغلتنى عن الحر و الملل و السباب و عن كل شىء ..
مع وصولها الى النافذه انقبض قلبى نوعا .. ستذهب .. ستطير و لن أراها ثانية .. لا أدرى ما الذى يمكننى فعله لأمنعها .. و عندما أيقنت أنه ليس ثمة ما يمكن عمله اكتفيت بارهاف السمع حتى يكتمل بصوتها السحر الذى وقع على منذ رأيتها .. رأيتها تلملم أوراقها بشىء من العصبية وملامحها الدقيقة تشى بغضب تجيد التحكم فيه .. وتابعتها بعينى حتى غادرت .. لم يحدث لى من قبل أن شعرت بشىء مثل هذا .. لم تكن صارخة الجمال و لكنها دون شك آسرة ...
لا ادرى كيف انصرف تفكيرى عنها بعد ذلك الى ما جئت من أجله و بالطبع اتبعت معى الموظفة سياستها المعتادة والتى تقضى بحد أدنى زيارتين للحصول على ما جئت من أجله .. بنظره شامته قالت " عايزة وصل نور هاته و تعالى بكره " ... منعت نفسى من أن أبصق فى وجهها ولملمت أوراقى و خيبتى .. وانصرفت ..


***********

هى

اليوم حار جدا كما يبدو .. الشىء الذى جعلنى ممتنة لاختيار الأبيض الفضفاض ذو الأكمام القصيرة و أكثر امتنانا لجمع شعرى الى أعلى .. يمكننى ممارسة الانتظار بدراما أقل اليوم و قد رافقتنى اختنى لتثبت أننى أنا كما طلبت تلك الموظفة أمس .. كانت تقف معى نثرثر و نضحك من آن لآخر على أى شىء و على كل شىء .. فالغرفة تعج بالمضحكات المبكيات .. شعرت بالعطش فقررت أن تذهب لتشترى شيئا لنشربه مطمئنة الى مكاننا الذى لا نحسد عليه فى نهاية الطابور الطويل .. طبلت منها ألا تتأخر ووعدتنى ألا تفعل و غادرت ..
لم يمض على ذهابها لحظات حتى تنبهت الى صوت أحدهم يتساءل " هما جابوكى تانى النهارده؟ " و عندما التفت لأرى المتحدث فاجأتنى عينان عسليتنا شديدتا النقاء و فيهما ابتسامة ود .. تلك التى لا يمكنك مقابلتها بالجفاء المتوقع فى تلك المواقف.. للحظات لم أجد ما أرد به فأومأت ايجابا .. قال و كأنما شعر بأنه تسرع فى شىء ما " هو انتى مش كنتى هنا امبارح؟" أجبته أن نعم .. وحكيت له باختصار قصتى المأسوية مع الموظفة الحيزبون .. انفجرت منه ضحكة أجفلتنى عندما وصفتها له بالحيزبون ثم ما لبث أن اعتذر متداركا الموقف "أنا آسف بس أصل حيزبون دى لايقة عليها أوى"
لم أجد ما أقوله .. لعلى تماديت فى المزاح مع شخص لا أعرفه .. وان كانت ملامحه تبدو مالوفة نوعا .. ربما لآنه كان هنا بالأمس .. على كل حال لم يعجبنى ما وصلنا اليه و قررت أن أنهى الحديث فأشحت بنظرى عنه و نظرت باهتمام الى اللا شىء ..

*********

هو

لم أصدق عندما رأيتها تعبر خلال الباب الذى خيل الى انه ابتسم لحظة مرورها عبره .. كيف لا و قد زادت تألقا و سحرا بين عشية و ضحاها ؟ كانت ساحرة فى زيها الأبيض الفضفاض الذى بالكاد يلامس بشرتها الخمرية .. وشعرها البنى المرفوع بأناقة الى أعلى .. ربما كانت بساطتها المفرطة سر سحرها .. هى فتاة تجيد التلاعب بالألوان و بالقلوب أيضا.. شعرت بأننى اذا لم أتحدث اليها اليوم فسأعيش عمرا من الندم .. ولكن كيف وهى اليوم بصحبة فتاة أخرى تبدو من ملامحها المشابهه لها و كأنها قريبتها أو أختها ربما .. شعرت بالضيق و الحنق على الفتاة التى لا ذنب لها الا انها تعارضت دون ان تدرى مع مشاريعى الخاصة.. وجدتنى اتسلل كطفل الى نهاية الطابور كى أقف بجوارها و استمعت بارهاف الى حديثهما .. كانت تسخر من كل شىء .. ودودة جدا و تتحدث بتلقائية تشعرك انها ربما أختك أو ابنتك .. كانت ممتعة ..
لم أصدق أن المعجزة حدثت فعلا حين قررت مرافقتها أن تذهب لاحضار ما تشربانه كما سمعت.. شعرت بأن ساقى تخدرتا و أوشك قلبى على التوقف حين أفلت منى سؤالى .. لم يبد أنها لاحظتنى البارحة .. طبيعى .. فكيف لنجمة عالية أن تلتفت لكل من بهره نورها؟ تحدثت بود و باختصار – أو لعلى توهمته اختصارا لأن كلماتها القليلة المتحفظة لم تشبع رغبتى فى التحدث معها الى الأبد – عن سبب وجودها هنا للمرة الرابعة كما اتضح لى .. وقبل أن تسعفنى قريحتى بما قد يسمح بالاسترسال فى الحديث تلاشت ابتسامتها العذبة ببطء و أشاحت بوجهها وكأنما أدركت انها أعطتنى الكثير مما لا استحقه .. كان هذا محبطا بحق ..

*************

هى

كانت ياسمين قد وصلت للتو لتنقذنى مما أنا فيه .. هل كانت وقاحة منى أن أنهى الحوار هكذا فجأة .. أم لم يكن من المفترض بى الخوض فى هذا الحوار منذ البداية ؟ لم يتجاوز الرجل حد الكلمات البسيطة التى قد يتبادلها الناس فى موقف مثل هذا .. ولكننى لأسباب تتعلق بعينيه العسليتين لم أشعر أنه كان حديثا عابرا .. نجحت ياسمين فى اخراجى من أفكارى حتى وصلت الى الموظفة التى تذكرت وصفى لها بالحيزبون .. وتذكرت كيف ضحك بشدة على تعليقى .. نظرت اليه فوجدته ينظر الىَ بابتسامة خمنت أن سببها أنه تذكر ما قلته بدوره عندما رآنى أمامها وجها لوجه .. كانت قد انتهت للتو من احباط الرجل الذى كان يسبقه فى الصف حين التفتت إلىَ و تقدم هو ليحل محل سابقه .. فوقفنا متجاورين .. راجعت البيانات بذات النظرة الفاحصة وكررت السؤال الأزلى " أمال فين البطاقة؟ " كادت ياسمين تصاب بالشلل اثر هذا السؤال بينما أجبت أنا " يا فندم والله العظيم البطاقة ضايعة و ده طلب بدل فاقد و فى صورة من المحضر" .. رمتنى بنظرة الاحتقار اياها قبل أن تتساءل " اسمك منى؟ " فأجبت و كأنما أنفى عنى تهمة ما " لأ اسمى مى حضرتك .. ميم يه بس .." أنهت الأوراق وطلبت منى الدخول الى مكتب آخر لاتسلم ايصالا بالاستلام .. أخبرتنى الموظفة التى دخلت اليها أن الاستلام بعد اسبوعين من الآن .. كنت أدفع باب المكتب فى طريقى للخروج حين وجدته أمامى مباشرة .. ابتسم ابتسامته العسلية وقال بلهجة المنتصر " هاتخديها أخيرا " .. أجبت ببساطة " آه ان شاء الله كمان أسبوعين" .. امتدت يده الى فوضعت الايصال فى كفه بتلقائية .. ألقى نظرة عابرة على تاريخ الاستلام ثم أعادها الى قائلا كمن يودع صديق ما " يالا مبروك يا ستى .. مع السلامة " .. لم أرد لأن ياسمين فى تلك اللحظة جذبت ذراعى و مضت بى خارجا .. لم انتبه الى حديث ياسمين ولا الى الفرحة التى يجب أن أشعر بها بعد الفوز بالايصال أخيرا بقدر ما انتبهت الى شىء ما فى ابتسامته العسلية وكلماته البسيطة أكد لى أنها قطعا لن تكون المرة الأخيرة ...

**********

هو

أيام مثل هذه تستحق أن تسرع الى أقرب روزنامة لتضع دائرة حمراء حول تاريخ اليوم .. لأن شعورا ما بداخلك يؤكد لك أنك ستحتفل بهذا التاريخ بعد هذا كل عام .. اغتصبت منها موعدا دون أن تدرى .. لا أعلم كيف تجرأت لآخذ الايصال لأعرف تاريخ الاستلام .. ولا كيف ناولتنى هى اياه بهذه البساطة .. ربما هو القدر الذى ظل يتآمر معى و عليَ فى اليومين الماضيين يساندنى مرة أخرى كى لا تضيع منى .. لا أعرف ما هذا الذى أشعره و لم أكن يوما من المؤمنين بالحب من النظرة الأولى .. ولكننى أجد نفسى اليوم مؤمنا بالسحر من النظرة الأولى .. بالسعادة من اللحظة الأولى .. بالقدر الذى يتقن ألاعيبه فى أى وقت و فى أى مكان ..