الخميس، 8 يناير 2009

توازى

جلس منصتا فى اهتمام الى ما يعتبره سيمفونية نقر اصابعها على الطاولة التى جلسا اليها تحتسى هى مشروبها المفضل بينما يدخن هو سيجارته شاردا.. ساخرا من نفسه ان تكون هى بالذات موضع شروده بينما يعلم هو تمام العلم ان هناك " اخر" هو موضع شرودها .. كان يلاحظ تفاصيلها بدقة كمن يقابلها للمرة الاولى و يرغب فى ان يعى منها قدر المستطاع خوفا الا يراها ثانية .. يبتسم ساخرا ثانية فهو يعلم تمام العلم انه لابد من مرات ثانيه..مسمتدا ثقته من صداقة ربطتهما منذ قرابة الثمانى شهور تجعل اطول مدة ممكنة ليقضيها كلاهما متباعدين لا تتجاوز اليومين..
كان يعرف أن هناك اخرا بحسب ما يعرفها.. فهى لا تبدو شاردة الا عندما يبدأ قلبها بالخفقان..لا تبدو صامته مستغرقة الا عندما ينقر احدهم باب قلبها بالقوة الكافية لدفعها للتفكير ما اذا كان عليها ان تفتح ام لا.. وبقدر ما يحب تحكمها فى مشاعرها بقدر ما يكرهها حين لا توجه هذه المشاعر التى لا يقدرها سواه الا لسواه.. لم يكن يملك ترف ان يبادرها بالسؤال الذى يؤرقه منذ مدة عن فارسها الجديد فهو يعلم ان احترامه لخصوصيتها هو الضمان الوحيد لاستمرار صداقتهما وبقائها.. فى الوقت الذى انهارت فيه صداقات أشد وثاقة بسبب تجاوز الاخرين لخطوطها الحمراء.. الشىء الذى لا تسمح هى به ايا كان الدافع و ايا كانت منزلة هؤلاء.. والذى تراه كافيا لانهاء تلك الصداقات فى الحال لتبتعد تاركة الف علامة تعجب فى رأس الكثيرين.
كانت هى كما توقع غارقة تماما فى ما ستفعله بصدد اخر برز من العدم و طرق باب قلبها بالعنف المناسب.. تتأمل دخان سيجارته المشتعلة ثم تخفض عينيها الى الرماد المتساقط لتكتشف انها مع هذا الاخر لا تملك الا التساقط تباعا .. شعورا كريها بالميل الى الاخر كان كافيا بالنسبة لها لتحسم أمرها .. ستبتعد عن ذلك الاخر للأبد فهى تكره ان تنتمى الى أيهم تحت أى مسمى ..
- فيييييينك ؟
قالها باسما لكسر الصمت الذى طال دون فائدة..ليس انه يكره صمتها بل لانه شعر انه يفتقد صوتها و فلسفتها حين تتكلم ..ابتسمت ابتسامه ذابلة من تلك التى يعشقها قائلة :
- احزان و يعدو
ابتسم ابتسامة مماثلة.. وتعجب فى نفسه من كونها تمتلك سيطرة تامة على كلماتها تستمد منها سيطرة تامة عليه بحيث تعرف تماما ما الذى يقال و متى .. فتتسع ابتسامته اعجابا .. بعد تفكير قال :
- شكلك مش عاجبنى النهاردة..
- ولا عاجبنى انا كمان
قالتها مرسلة تنهيدة مرجعة رأسها الى الوراء ثم اعادت رأسها للامام ببطء و غرقت فى افكارها من جديد..
- بحبك
- و ماله.. انا لو مكانك كنت حبيتنى برضو
قالتها فى ثقة وهدوء كانت لتصدم سواه و لكنها لم تصدمه بعد كل ما عرفه فيها من تماسك يصل الى حد البرود .. لم يتأثر لبرودها فلم يتوقع للحظة انها ستخر صريعة معترفة بحبها المكبوت منذ الازل حالما يبادرها هو باعترافه الاسطورى ..
نظر اليها طويلا و لم يعلق..بادلته النظرات ففهمت على الفور انه لن يتكلم لكن الفضول النهم فى عيناه جعلها تبدأ:
- بص اللى هقوله ده هقوله مرة واحدة و نقفل الموضوع و ننساه على كده عشان احنا الاتنين مش عايزين وجع دماغ..تمام؟
أومأ برأسه و ان كان قد خمن معنى كلامها مسبقا و لكنه يحب ان يسمعها.. فلسفتها تضفى على اكثر الافكار ايلاما طابعا ساحرا يعشقه هو.. بدات الكلام مستعملة يديها لتشرح له كما تفعل عندما تشك فى سهولة وصول ما ستقوله الى من سيسمعه:
- بص.. كل خطين فى الدنيا بعد ما يتقابلو فى نقطة ايه اللى بيحصل؟
نظر اليها فى غير فهم " خطين ايه و بتنجان ايه؟ البت دى مجنونة؟" هذه كانت لنفسه طبعا و ان وشت ملامحه بما يدور بداخله..
- ركز يابنى .. فى الهندسة عموما مش اى خطين بيقطعوا بعض فى نقطة بيكملو فى طريقهم بعيد عن بعض بعدها؟ كل واحد فى اتجاه بعيد تماما عن التانى وبتبقى كل اللى بينهم النقطة اللى اتلاقوا فيها صح؟
- ممممممممممممممم
- لكن لو الخطين دول متوازيين و عمرهم ما قطعوا بعض هيفضلو مكملين مع بعض على طول .. أى نعم هما موصلوش من القرب للحد اللى يتقابلو فيه فى نقطة لكنهم هيفضلوا جنب بعض على طول
- مممممممم
- انا و انت بأه خطين متوازيين..لو غيرت انت مسارك و اتقابلنا فى نقطة و بقى اللى بيننا حب و كلام فاضى هيكون مصيرنا هو المصير الهندسى المعروف لأى خطين يتقابلوا فى نقطه.. ان كل واحد فيهم هيكمل فى طريقه بعيد عن التانى و هيبقى كل اللى بيننا هى النقطة اللى كنا عندها احباب.. و انا مش عايزة كده .. انا عايزياك جنبى على التوازى..مش عايزة يبقى كل اللى بيننا نقطة نتقابل قيها و بعدين كل واحد يروح لحاله.
صمت مفكرا فى كلماتها .. لم تقنعه الفكرة ولكن اقنعه اقتناعها هى بها .. هى دوما على صواب حتى و ان بدا كلامها اقرب الى الهذيان .. هذا ما اعتاده منها .. كان فى البداية لا يتقبل افكارها ثم ما ان يخلو الى نفسه مفكرا يجد انها محقة تماما و لكن مشكلتها هى تلك الزاوية العجيبة التى تنظر من خلالها الى الامور و التى علمته ان ينظر الى الامور من خلالها ليفهم كيف تفكر و يكف عن التعجب أو اتهامها بالجنون كما يفعل الاخرون.. و قد كان.. و ان لم يمنعه ذلك من محاولة أخيرة :
- يعنى كل الناس اللى بيحبوا و بيتجوزوا دول اللى بينهم نقطة؟
- اففففففف.. هتتكلم زى الناس و هحس انك مش فاهمنى .. يابنى مش كل اللى بيحبوا بيتجوزو..و الحياة مش فيلم عربى بينتهى لما البطل يبوس البطلة من ورا الطبلة .. مش كل اللى بيتجوزو بيتجوزو عن حب..و مش كل اللى بيتجوزو عن حب بيحافظو على حبهم بعد الجواز .. بلاش تبقى سطحى كده ..
صمتت لتلتقط انفاسها و ترى اثر كلماتها عليه..ادركت كم كانت قاسية فتداركت الموقف.
- بص.. انا بحبك اوى.. بالدرجة الكافية لأنى مضيعش علاقتنا دى فى انى احطها فى الاطار التقليدى للعلاقات الفاكسانه بين أى واحد وواحدة يقربوا من بعض شوية .. انا عايزانا نفضل سبيشيال كده .. و التفرد اللى فى علاقتنا ده مصدره التوازى .. عشان كده لازم نحافظ على التوازى ده.. اتفقنا؟
نظرت اليه بضيق فهم منه انها لن تتقبل كلمة أخرى فى الموضوع .. و ايقن ان التمادى فى محاولة اقناعها لن يكون سوى مخاطرة لا داعى لها بعلاقة تساوى عنده الحياة.. أوما برأسه و أشعل سيجارة أخرى صامتا..
تناست هى الموقف برمته و عادت الاستغراق فى اشياء غير محددة بينما نفث هو دخان سيجارته شاردا..

ليست هناك تعليقات: