الأحد، 3 أغسطس 2008

الكوربة

سارا متلاصقين تشابك ذراعيهما ليستقر كف كل منهما فى جيب الاخر..يوم من ايام تشرين الباردة يحتضر فيه الشتاء على الرصيف الذى لم تجف عنه امطار البارحة بعد.. تسند رأسها على كتفه كأنما تتوكأ عليه لينتثر شعرها على صدره و تداعب موجاته وجهه من آن لآخر..يبدو على كلاهما رضا تام ولا تجد لحديثهما نهاية.. و من خلفهما تشرق شمس باردة على ابنية الكوربة القديمة .. الكوربة التى تضم اكبر قدر ممكن ذكرياتهما سويا .. الساعة لا تتجاوز السابعة صباحا و الشارع يكاد يخلو من المارة.. يمرا امام ذات المقهى لتسود لحظة صمت قطعتها ضحكة الفتاة..نظر اليها فنظرت الى المقهى الذى لم تفتح ابوابه بعد نظرة ذات معنى ليفهم قصدها على الفور و يشاركها الضحك مبادرا : "فاكرة؟"
اعادت النظر الى المقهى و ارتسمت ابتسامة حزينه فى عينيها و اجابت: " مين يقدر ينسى؟ ... أول معاد و أول حب..". ضمها اكثر و ابتسم و لم يجيب.
" فاكر يومها انا جرحت ايدى فى كان البيبسى..ههههه"..ضحك كثيرا و اجاب : " انا يومها كنت هموت و امسك ايدك اشوف ايه اللى جرالها بس خفت تزعلى.. هههه ".. قطبت مفتعلة الغضب و قالت معابثة : " اه طبعا كنت هزعل انت فاكرنى ايه يا استاذ..ههههه".. و استغرقا فى الضحك مرة اخرى.
" تعرفى اننا من امبارح فى الشارع؟" قالها مبتسما فأجابت فى بساطة : "طب و ايه يعنى؟ احنا حرين نبات فى الحته اللى تعجبنا".."حبيبتى انا مقلتش حاجة بس زمانك تعبتى من المشى" .. نظرت اليه بحزن : "انت نسيت انى مش بتعب من المشى؟ و انه النشاط الانسانى الوحيد اللى ممكن افضل اعمله اكتر من 10 ساعات من غير ما ازهق؟ ده متعتى الوحيده..و بعدين انا مش تعبانه " ثم اضافت بمرح : "لو انت تعبت قول متتكسفش" استغرقا فى الضحك مرة اخرى قبل ان يجيبها : "مش انا يا ماما".
سادت فترة من الصمت لم يقطعها الا صوت السيارات بعيده فى الشارع الرئيسى.. قادتهما الخطى الى احد المقاهى فدخلا و جلسا .. طلب من النادل قهوة الصباح لكليهما فهو يعلم انها تحب القهوة بما لا يتماشى مع رقتها.. فترة اخرى من الصمت قطعتها هى دون تفكير : " كنت هسمى ابنى على اسمك و بعدين حسيتها افلام عربى اوى فقررت اسميه زى ما كنا ناويين نسميه" ابتسم بأسى و قال: "سيف؟ " اومأت موافقه و اردفت : "و بنتى اللى ربنا ما ارادش انها تعيش كنت هسميها ملك حسب الخطة بردو..هههههه" احتضن كفيها و لم يجيب.
" عارف ايه ابشع حاجة فى الدنيا؟ انك ترسم حياتك بصورة معينه مع حد معين و تعيشها بصورة تانية مع حد تانى خالص.. تعرف انى بحسدك عشان ما اتجوزتش؟ متستغربش الوحدة ارحم كتير من انى اعيش كل حاجة اتمنيت و حلمت اعيشها معاك مع حد تانى بكرهه..الله يسامحهم اللى كانو السبب"
نظر اليها مشفقا : " خلاص يا حبيبتى ارمى كل ده ورا ضهرك احنا اهه مع بعض و هنعيش زى ما كنا بنحلم و محدش هيبعدنا تانى.." ... " يا ريت..مفتكرش ينفع .. انا حاسة انى بقيت عجوزة.. الحزن هدنى و الدنيا خدت منى كتير.. براءة زمان و التفاؤل .. القوة و الثقة فى نفسى و فيك مبقتش زى الاول..آه" فرت من عينيها دمعه امتدت يده لتمسحها تلقائيا و لم يدر ما يفعل سوى ان لثم كفها فى صمت.
غادرا المقهى مترنحين من فرط الاجهاد..توجها الى حيث تركا سياراتهما امس و استقل كلا منهما سيارته .. تابعها حتى وصلت الى حيث تسكن بعد ان استقلت بحياتها.. نزل من سيارته ليودعها امام المبنى.. بادرته بابتسامه فقال : "هشوفك بالليل؟ " .. " مش عارفه "
" بصى انا خسرتك مرة و مش هخسرك تانى.. انتى فاهمة؟ انا بحبك و عمرى ما نسيتك و مقدرتش اتجوز بعدك.. انتى ليا و انا مش بستأذن فى دى..مفهوم؟ " ضحكت و لم تجيب.. ودعته و صعدت الى شقتها و مضى هو عائدا الى شوارع الكوربة..

ليست هناك تعليقات: