الأحد، 3 أكتوبر 2010

سكر نبات

أول ما لفت انتباهى إليها كانت الخصلات البيضاء التى غزت شعرها الغجرى بالرغم من صغر سنها البادى على ملامحها التى كانت تفتقر الى الجمال نوعا .. كانت بادية القلق والارتباك وكأنها زيارتها الأولى لطبيب الأسنان .. أعلم أن الكثيرين يجدون الأمر مفزعا ويبدو عليهم القلق و التوتر فتتسارع كلماتهم و يشحب لونهم بمجرد جلوسهم على المقعد الجلدى المتحرك ، ولكنها بدأت فى أعراض التوتر المعروفه بمجرد دخولها عبر باب الحجرة .
كانت فى أواخر العشرين على أقصى تقدير .. ترتدى الجينز الأزرق الفاتح مع الأبيض و الأسود ذى الأكمام الطويله .. سمراء نحيلة تضع العوينات و تتحدث بعصبية .. ولاتكف عن العبث بأصابعها الخالية من أى أثر للارتباط ، وقد كانت واضحة منذ البداية :
- أنا بخاف جدا من دكاترة السنان و لولا ان ضرسى مش مخلينى أنام مكنتش جيت أبدا، فلو سمحت بالراحة خالص.
هكذا تحدثت الى الطبيب الذى أعمل أنا كمساعدة له والذى ابتسم بهدوء و أومأ أن " حاضر متقلقيش"..
كانت متعاونة بالقدر الذى سمحت به هيستيريتها، ففتحت فمها واحتملت بالكاد ألم إبرة التخدير .. طلب منها الطبيب المغادرة لدقائق ريثما يبدأ مفعول المخدر فغادرت على الفور.. وضغط هو زر الجرس ليطلب المريض التالى ناظرا إليها بإشفاق- تلك المسكينه.
انتهى الآن مما يفعله وضغط الزر مرة أخرى لتدخل ، وعندما لم يدخل أحد طلب منى أن أتفقد ما يحدث بالخارج ، فقط لأفتح الباب وأجدها بصحبة مريضة أخرى تقبض الفتاة على ذراعها بإحكام .. حيت المريضة الأخرى الطبيب بحميمية تدل على معرفة شخصية ، وبادلها التحية بما يؤكد هذا قبل أن تقول باسمة :
- أنا لقيتها خايفة و عايزة تمشى قلت أدخل معاها وهى بتخلع لو مفيش مشكلة..
باسغراب أخبرتها ألا مشكله هناك فدخلت الاثنتان ، تمددت الفتاه العصبية على الكرسى دون أن تفلت ذراع مرافقتها التى تعرفت عليها منذ دقائق ، حين بدأت أنا فى إعداد ما سيحتاجه الأمر من أدوات.
- بالراحة لو سمحت .. بالراحة
قالتها بعصبيتها الزائدة فابتسم الطبيب مطمئنا أن " مش عايزك تقلقى خالص ان شاء الله مش هتحسى بحاجة ، ولو حسيتى قوليلى وأنا أديكى بنج تانى ."
كنا نعلم أن هيستيريتها ستزيد من سوء الأمور ، ولكن لابد مما ليس منه بد.
بالطبع لم تكن أسهل الحالات التى يمكنك التعامل معها ، ليس طبيا و إنما إنسانيا .. خصوصا عندما بدأت فى البكاء و الضغط على رأسها بيديها مرددة " صداااااااااااااع " .. حتى انها نجحت فى إرباكى انا شخصيا حين بدأت فى ضرب ذراع الكرسى بيدها مرددة "كفاية" .. كانت لحظات ثقيله بالفعل .
بمعجزة ما أنهى الرجل ما بدأه وأعطاها تعليمات ما بعد الخلع ، وانصرفت شاكرة ، وبقيت الأخرى تحكى كيف وجدت الفتاة فى قاعه الانتظار بالخارج تحكى على الملأ أنها متوترة جدا ، ثم تتطرق إلى حياتها الشخصية فتخبر الجميع دون سابق معرفة كيف تعانى من حالة نفسية وتقصد طبيب نفسى للعلاج ، وتعيش مع أخيها وزوجته التى تكرهها ، ولا تجد ما تفعله بلا زوج أو عمل ، والكثير مما لا يقال فى العادة فى قاعة انتظار طبيب .
- أنا لقيتها قاعدة تتكلم والناس بتتفرج عليها ويبصولها بصات مش قد كده فقعدت أتكلم معاها ووعدتها إنى أدخل معاها وهى بتخلع بشرط إنها متتكلمش عن نفسها كده تانى عالملأ .. انت عارف الناس بيبصوا للى بيتعالج نفسيا إزاى مع إن كلنا مرضى بدرجات متفاوته ..
قالتها المرأة وهى تتمدد بهدوء على الكرسى المتحرك
- مسكينه .. كان باين عليها من أول ما دخلت إن فيها حاجة غلط
قالها الطبيب بلا مبالاه ..
- الحمد لله إنها جت على قد كده
قالتها قبل أن يبدأ الطبيب فيما هو بصدده .. بدأت ألاحظها ..
كانت فى أواخر الثلاثينات متوسطة الجمال ولكن اهتمامها بمظهرها بادى على ملابسها وحذائها و غطاء رأسها الأنيق ، وزينتها الهادئة التى تدل على بساطة ورقى فى نفس الوقت .. كان يناديها باسم تدليل بما يوحى بمعرفة وثيقة وكانت تتحدث بعفوية تؤكد هذا.. زميلته فى عمله بالفتره الصباحية كما اتضح لى من حوارهما ، تكبره بما لا يقل عن عشر سنوات تسمح لهما بهذا المزاح اللطيف دون أن يشعر أيا منهما بالحرج .
انتهى منها وثرثرا قليلا .. أشركتنى هى فى الحديث بعد أن تعرفنا كما ينبغى .. اندمجت معهما تماما وتحدثنا كأصدقاء .. ودودة جدا هى و على قدر كبير من الثقة بنفسها..
- عايزة صور خطوبتك بأه بقالك قد ايه واعدنى تجيبهوملى؟
قالتها مداعبه حين ضرب هو جبهته بيده مشيرا الى نسيانه التام
- معلش والله بنسى .. هجيبهوملك بكره ان شاء الله
- أما نشوف .. على الله بس ألحق أشوفهم قبل الفرح
قالتها ضاحكة وهى تتوجه نحو الباب مغادرة .. فضحك ثلاثتنا وودعتنا منصرفة .. أغلقت أنا الباب والتفت إليه
- لطيفه أوى مدام هند .. حبيتها
اندهش وأجاب مسرعا :
- مدام ايه دى مش متجوزة .. إوعى تكونى غلطتى و قلتيلها يا مدام لحسن أنا عملتها مرة فى أول معرفتى بيها و لقيتها أحرجت جدا ..
- معقول؟
أومأ مؤكدا فى أسف .. بذهول رحت أحاول تذكر أى قيود ذهبية فى أصابعها فلم أستطيع .. سرحت قليلا أقارن فى ذهنى بينها وبين المريضه الهيستيرية التى رافقتها ، وأسترجع تحديدا صورة الفتاة و هى تقبض على ذراعها عندما دخلت للمرة الثانية .. ولسبب ما تذكرت أغنية بعينها لمحمد منير .. وخطر لى أننى إذا فتشت فى جيوب أيا من الفتاتين .. فسأجد الكثير من سكر النبات ...

هناك تعليقان (2):

Nabil يقول...

اكتر من روعه

عيشت الموقف وسمعت الاصوات

جميل جميل جميل

Ganna Adel يقول...

ميرسى ميرسى ميرسى :)