الثلاثاء، 26 أكتوبر 2010

تنذكر ما تنعاد

كانت خطواتها واثقة خفيفة كمن يحب لأول مرة ، أو كأنها تخطو فوق سحابة وردية من غزل البنات وضحكتها صافيه جدا و كأنما عاد بها الزمن خمسة و عشرين عاما للوراء ، وكأنما تتعرف للمرة الأولى على لذة أن تتخذ قرارا وتنفذه فى الوقت الذى تحدده هى ، كنت أعرف هذا الشعور فتركتها تستمتع به لأقصى مدى ..
- عايزين نشرب حاجة احتفالا بالمناسبة السعيدة دى
- حاجة ايه؟
- قصب طبعا .. مشروب السعادة .. ولا انتى شايفة ايه؟
- وهو كذلك ..
توقفنا عند أقرب بائع عصير فى الميدان الواسع وشربنا معا نخب طلاقها بعد خمسة وعشرين عاما من المعاناة ..
- فلتحيا الحرية
قلتها ضاحكة فأومأت مواقفة قبل أن تشرب ما تبقى فى كوبها دفعة واحدة ..
عندما ركبت القطار هذا الصباح لزيارتها بهدف تهدئة الأمور بينها وبين زوجها لم أكن على أدنى علم بما كانت هذه المسكينة تعانيه طوال هذه المدة .. وكنت أحلم بأن أنجح فى إعادة الأمور لسابق عهدها الذى كنت أظن أنا فيه استقرارا عائليا .. ليس لها وله فقط ، ولكن للأولاد قبل أى شىء .. بالرغم من الانقباض الذى لازمنى منذ ان استيقظت من حلم سخيف وجدتنى فيه فى منزلها وجدارا ما يتهدم بسبب تسرب الماء إليه من السقف .. من وقتها وأنا أشعر ان مكروها سيقع .. وأن الأمور ستسير فى عكس الاتجاه الذى أريده لها ..
انتهينا من القصب و توجهنا إلى محطة الترام أو كما تسميه " الزقزوقة " .. وجلسنا بانتظار الترام الذى سنستقله إلى رمسيس .. حيث محطة القطار الذى سيحملنى الى منزلى يلازمنى وإلى الأبد إتهاما مِن زوجى وأبنائى وكل مَن لم يحضر طلاقهما بأننى " جيت أكحلها عميتها " ...
- أهه المترو جه
- لأ ده اللى جاى من رمسيس ، بتاعنا ماشى كده
أشارت بيدها إلى الاتجاه الصحيح ، مما أشعرنى بالخجل من جهلى الدائم بالطرق والمواصلات بالرغم من تعدد زياراتى لها بالقاهرة ..
كنت أعلم أن زوجها ليس بريئا كما يدعى ، فأنا أعلم طباع أختى تمام العلم ، كانت أكثرنا حنانا ورومانسية إلى حد السذاجة ، وكانت قدرتها على التسامح تدهش الجميع .. لابد أنه أخطأ وبشدة كى تتحول إلى هذه المرأة القاسية التى فاجأنى بها اليوم حتى وددت أن أصرخ فى وجهه " انت ازاى خليتها بقت كده ؟ " ...
- أهه المترو جه اهه
قالتها فقفزنا إليه ووجدنا مكاننا بسهولة ، ربما لأن الساعة تجاوزت العاشرة مساءا فليس الإقبال عليه فى أوجه .. بجوار النافذه جلست هى وفى مواجهتها جلست أتأملها .. كانت تبدو مشرقة كيوم أخبرتنى عنه للمرة الأولى .. دعك من آثار الزمن التى بالكاد تبدو على وجهها الطفولى رغم كل شىء .. بدت حيوية وعاد بريق عينيها شديدا كما فى ذلك اليوم ، عندما سألتها عنه فأجابت وهى تكاد تطير :
- عارفة كل حاجة حلمت بيها فى يوم من الأيام ؟ هو ده ..
رباه .. لماذا إذن انتهى الأمر بهذه الطريقة المأساوية ؟ وكيف ظلت هى خمسة وعشرون عاما تخفى عنى و عن الجميع حقيقته التى اكتشفتها بعد زواجها منه بأيام ؟
تكرر مشهد طلاقها فى ذهنى وتذكرت كيف ظلت حتى اللحظة الأخيرة محتفظة بهدوئها وثبات أعصابها ...
- انتى عايزة ايه دلوقتى؟
- عايزة اتطلق .. طلقنى ..
ظلل يكرر سؤاله وظلت هى تكرر جوابها بذات البرود ، وكدت أنا أفقد الوعى عندما قال لها بغضب " انتى طالقه "..
حينها انفجرت تسرد تفاصيل زواجها التعس الذى أخفته منذ زمن ، تاريخ مقزز من سوء المعاملة و الإهانه التى وصلت كثيرا الى حد الضرب ، الكثير من السباب و التجريح ، الكثير من الشك وعدم الثقة ، الكثير من الخيانة التى لم تستطيع المسكينة تحملها أكثر من ذلك .. والتى كانت السبب فى نهاية الموضوع .. أخبرته بسخرية أنها أتمت الأشغال الشاقه المؤبدة التى كتبت عليها منذ تزوجته حتى آخر المدة .. وآن لها أن تحظى بحريتها الآن .. وواجه هو الأمر بالكثير من الصمت ..
كانت تعبث بأصابعها فى دبلتها الذهبية فسألتها عما تنوى فعله بشأنها فقالت أنها ستحتفظ بها فى إصبعها رغم كل شىء .. ليس تمسكا منها به وإنما كى لا يثير الأمر الكثير من التساؤلات ، فلم تكن تنوى إذاعة الخبر ، خصوصا وأن أيا منهما لن يغادر المنزل ..
- اللى يريحك يا حبيبتى
- مش فكرة اللى يريحنى انا مش قادرة أقولك الدبلة دى حاليا خانقانى قد ايه ، بس الفكرة انى مش ناوية أقول لحد فى الشغل ولا فى صحابى .. مش عايزة جو مصمصة الشفايف والطبطبة و " اخص عليه الخاين " .. خلينا كده أريح .. واذا كنت استحملته هو شخصيا خمسة و عشرين سنه ممكن أستحمل دبلته كام سنه كمان لحد ما ييجى قضا ربنا ..
- بعد الشر عليكى يا حبيبتى ربنا يديكى طول العمر
ابتسمت .. كانت تسوية بقاء الاثنين فى المزل مع استقلالها بملابسها وفراشها فى حجرة أخرى هى آخر ما توصلنا إليه من أجل الأولاد .. وكانوا - الأولاد - على الرغم من صغر سنهم نسبيا متفهمين تماما لحقيقة الوضع الجديد ، وعلى ثقة تامة أنهما اتخذا القرار الصحيح أخيرا ..
- هو البتاع ده بيقف كل كام متر كده ليه؟ كده ممكن منلحقش القطر
- متخافيش احنا نازلين بدرى عن معادنا بساعة مخصوص عشان نركب الزقزوقة .. كنت محتاجه شوية الفرجه دول أوى دلوقت ..
ابتسمت .. مازالت - بعيدا عن كل شىء - محتفظة برومانسيتها وقدرتها على أن تجد الجمال فى كل ما يحيط بها .. كيف استطاع ان يجرحها ؟ كيف استطاع أن يهينها ؟ وما الذى لم يجده فيها ليبحث عنه لدى سواها ؟ بل كيف استطاعت هى التعلل بالأطفال للاحتفاظ بزواجها منه بعد كل هذا ؟ كاد عقلى ينفجر بينما بدت هى راضية هادئة مستمتعة بالوضع الجديد ..
أخذنا الحديث عن تفاصيل ما حدث وتناقشنا فيها ثانية .. كيف بدا هو مذهولا بعد ما حدث وحاول التحدث معى بعدها عن ردها وما إلى هذا .. وكيف رفضت هى ومازالت ترفض مجرد الحديث عن الأمر كخيار قائم رفضا باتا .. من أين لك كل هذا التحدى يا صغيرتى ؟ ومن أين لك كل هذا العناد ؟
كنا قد وصلنا إلى رمسيس أخيرا .. القطار وصل وباقى على موعد قيامه ما يقارب نصف الساعة .. ليس من المنطقى أن تنتظر معى كل هذا لذا وبمجرد أن استقريت فى مقعدى طلبت منها المغادرة حتى لا يتأخر بها الوقت عن هذا .. ولم أسمح لها بالرفض هذه المرة ..
- مع السلامة يالا و خلى بالك من نفسك ومن عيالك ، ومتحتكيش بيه خالص انتى فى حالك وهو فى حاله
- من غير ما تقولى احنا كان بقالنا شهرين منفصلين ومبنكلمش بعض من غير طلاق .. فاللى حصل النهاردة كان مجرد رسميات مش هتغير حاجه .. انا بطلت اعتبره جوزى من زمان ..
أطرقت مشفقة .. ولكننى كنت أعلم انها لن تتحمل نظرات الرثاء فتجنبتها ..
- حلو أوى .. ارمى كل اللى فات ده ورا ضهرك وانسيه.. وخلصى عدتك يالا عشان نجوزك تانى بسرعه .. عايزين نسترك
قلتها ضاحكة فانفجرت بالضحك .. مرددة أنها لا تطيق النظر إلى أى شىء مذكر بعد الآن ...
- بيتى مفتوحلك فى أى وقت لو عايزة تسيبيه .. متفكريش
قلتها بالجدية المناسبة وكنت أعنيها .. أومأت شاكرة دون كلام .. واحتضنتها طويلا قبل أن تغادر القطار .. وعندما رأيتها تمر بجوار نافذتى لوحت لها فلوحت ومضت .. بخطواتها الواثقة الخفيفة ، وكأنها تخطو فوق سحابة وردية من غزل البنات ..

هناك 3 تعليقات:

Nabil يقول...

كل مره تتالقى ببريق مختلف

تماما عن اللى قبله

اعجابى المطلق الكامل لكل حرف

بتلمسى مواضيع شائكه وبتثير الافكار والتعاطف بكل تمكن وذكاء وهدوء قوى وراقى

تحياتى تحياتى تحياتى

Ganna Adel يقول...

مش قادرة أقولك قد ايه مبسوطة انك متابع وبتقول رأيك والكلام عاجبك كده :))))

بجد ميرسى

غير معرف يقول...

Este artículo fue muy interesante, sobre todo desde que yo era la búsqueda de ideas sobre este tema el pasado jueves.